والمئزر معروف وهو: ما يكون في وسط الرجل من السرة إلى أسفل. وقوله: (شد مئزره) هل معناه: أنه اعتزل النساء؟ أو أن معناه أنه شد حزامه كناية عن النشاط كما تقول: يا فلان! شد حيلك وشد حزامك ؟ وكما قيل أيضاً: أوردها سعد وسعد مشتمل ما هكذا يا سعد! تورد الإبل أي: أنه أورد الإبل والشملة على كتفه وهو غير مبال بها، وإيراد الإبل يحتاج إلى شد الحزام وإلى النشاط وإلى التشمير، والمراد شمر عن ساعديك يا سعد! فما هو المراد بشد المئزر؟ قال بعضهم قولها: (شد مئزره)، هو كناية عن العزم وتجديد القوة في العشر الأواخر، وهناك من يقول: (شد مئزره)، أي: أنه تجنب النساء، ويؤيد هذا المعنى قولها: (وطوى فراشه)، يعني: ليس هناك نوم في الفراش. قولها: (وأيقظ أهله)، إيقاظ الأهل رغبة في الخير، وكان صلى الله عليه وسلم في بادئ الأمر يوقظ أهله ليلة سبع وعشرين ويأمرهن بالاغتسال تهيئاً وتأهباً لليلة القدر على أنها في ليلة سبع وعشرين. إذاً: تبين لنا أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في العشر الأواخر ما لم يجتهده فيما قبلها. ونحن نقول: هي عشر ليالٍ وتنتهي فهل يعجز الواحد منا أن يجتهد في هذه العشر؟ السنة كلها (360) يوماً أيعجز فيها الإنسان عن عشرة أيام؟ لو قيل له: في كل ليلة من الليالي العشر لك عشرة آلاف ريال، فهل سينام؟ لن ينام، بل سيقف على ثلاث أصابع ويمد يديه إلى الله. المصطفى صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل في غير رمضان حتى تتفطر قدماه، فلما يأتي إلى العشر الأواخر في رمضان يجتهد أكثر مما كان يجتهد في غيرها، فمن منا قد قام حتى تفطرت قدماه؟ من ومن منا يحيي الليل كما كان يحييه صلى الله عليه وسلم؟ منا عمل بقوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79]؟ فهو صلى الله عليه وسلم مع ما وُعد به من المولى عز وجل؛ وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يقوم الليل، ولما سئل قال: (أفلا أكون عبداً شكوراً)، ثم يأتي إلى العشر الأواخر: (ويشد مئزره، ويطوي فراشه، ويوقظ أهله)، ونحن طيلة السنة نحل الإزار ونمد الفراش وننام نوماً عميقاً وبعض الناس في رمضان ليلهم نهار ونهارهم ليل، فإذا جاءت هذه الفرصة في حياة الإنسان ولم ينتهزها، فإن هذا من التفريط، ولكن أقول: التوفيق بيد الله، نحن لا نملك إلا أن نتوجه إلى المولى العلي القدير أن يوفقنا وأن يعيننا وأن يسددنا وأن يرزقنا خير هذه الأيام المباركة، وإلا فالعاجز والكسلان يضيع نفسه، وكما جاء في الحديث: (من حرمها فقد حرم الخير كله). نسأل الله سبحانه أن يجنبنا الكسل وأن يعطينا القوة والعافية، وأن يوفقنا ويسدد خطانا، فمهما كان عند الإنسان من عمل فهو يقدر أن يؤجله، ويقدر على أن يرجع إليه مرة أخرى، ويقدر على أن يسنده إلى غيره، فلا يفوت على نفسه هذه الفضيلة. إذاً: هذا من أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها بيان لحال النبي صلى الله عليه وسلم، فينبغي علينا وأخص طلبة العلم أن ننقطع للعبادة في هذه العشر، فنحن بخلاف طلبة الدنيا فقد يكون الواحد منهم مضطراً لأن يدير تجارته، ومضطراً لأن يوالي بضاعته، أو أن هذا عنده موسم دنيا، ولكن نقول له: أيضاً لا ينبغي أن يحرم نفسه، ولا أن يجعل كل همه في تجارته وصناعته وزراعته، بل يعطي نفسه ولو عشرة أيام في السنة كلها.