بين الفضيل بن عياض والرشيد
قال الفضيل بن الربيع: كنت بمنزلي ذات يوم وقد خلعت ثيابي وتهيأت للنوم, فاذا بقرع شديد على بابي, فقلت في قلق: من هذا؟.
قال الطارق: أجب أمير المؤمنين, فخرجت مسرعا أتعثر في خطوي, فاذا بالرشيد قائما على بابي وفي وجهه تجهّم حزين, فقلت: يا أمير المؤمنين لو أرسلت اليّ لأتيتك.
فقال: ويحك قد حاك في نفسي شيء أطار النوم من أجفاني وأزعج وجداني شيء لا يذهب به الا عالم تقي من زهادك, فانظر لي رجلا أسأله.
ثم يقول ابن الربيع: حتى جئت به الى الفضيل بن عياض.
فقال الرشيد: امض بنا اليه, فأتيناه, واذا هو قائم يصلي في غرفته وهو يقرأ قوله تعالى:{ أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين ءامنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم, ساء ما يحكمون}.
فقال الرشيد: ان انتفعنا بشيء فبهذا.
فقرعت الباب.
فقال الفضيل: من هذا؟.
قلت: أجب أمير المؤمنين.
فقال: ما لي ولأمير المؤمنين.
فقلت: سبحان الله, أما عليك طاعته؟.
فنزل ففتح الباب, ثم ارتقى الى الغرفة فأطفأ السراج, ثم التجأ الى زاوية من زوايا الغرفة, فجعلنا نجول عليه بأيدينا فسبقت كف الرشيد كفي اليه.
فقال: يا لها من كف ما ألينها ان نجت من عذاب الله تعالى غدا.
قال ابن الربيعك فقلت في نفسي ليكلمنه الليلة بكلام نقي من قلب تقي.
فقال الرشيد: خذ فيما جئناك له يرحمك الله.
فقال الفضيل: وفيما جئت وقد حمّلت نفسك ذنوب الرعيّة التي سمتها هوانا, وجميع من معك من بطانتك وولاتك تضاف ذنوبهم اليك يوم الحساب, فبك بغوا وبك جاروا وهم مع هذا أبغض الناس لك وأسرعهم فرارا منك يوم الحساب, حتى لو سألتهم عند انكشاف الغطاء عنك وعنهم أن يحملوا عنك سقطا _جزءا_ من ذنب ما فعلوه, ولكان أشدهم حبا لك أشدهم هربا منك.
ثم قال: ان عمر بن عبد العزيز لما وليّ الخلافة دعا سالم بن عبد الله ومحمد بن كعب ورجاء بن حيوة _ وهو ثلاثة من العلماء الصالحين_ فقال لهم: اني قد ابتليت بهذ البلاء فأشيروا عليّ. فعدّ الخلافة بلاء وعددتها أنت وأصحابك نعمة.
فقال سالم بن عبد الله: ان أردت النجاة غدا من عذاب الله فليكن كبير المسلمين عندك أبا, وأوسطهم عندك أخا, وأصغرهم عندك ابنا, فوقر أباك وأكرم أخاك وتحنن على ولدك.
وقال رجاء بن حيوة: ان أردت النجاة غدا من عذاب الله فأحبّ للمسلمين ما تحب لنفسك واكره لهم ما تكره لنفسك, ثم مت ان شئت, واني أقول لك يا هارون اني أخاف عليك أشدّ الخوف يوما تذل فيه الأقدام فبكى هارون.
قال ابن الربيع: فقلت أرفق بأمير المؤمنين.
فقال: تقتله أنت وأصحابك وأرفق به أنا؟
ثم قال: يا حسن الوجه, أنت الذي يسألأك الله عز وجل عن هذا الخلق يوم القيامة, فان استطعت أن تقي هذا الوجه فافعل, واياك أن تصبح أو تمسي وفي قلبك غش لأحد من رعيّتك, فان النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من أصبح لهم غاشا لم يرح رائحة الجنة".*
فبكى الرشيد.
ثم قال: هل عليك دين؟.
فقال: نعم دين لربي لم يحاسبني عليه, فالويل لي ان سألني والويل لي ان ناقشني والويل لي ان لم ألهم حجتي.
قال الرشيد: انما أعني دين العباد.
فقال: ان ربي لم يأمرني بهذا وقد قال عز وجل:{ وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون * ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون * ان الله هو الرزاق ذو القوة المتين}.
فقال الرشيد: هذه ألف دينار خذها وأنفقها على عيالك وتقوّ بها على عبادتك.
قال: سبحان الله. أنا أدلك على طريق النجاة وأنت تكافئني بمثل هذا.
قال ابن الربيع: فخرجنا من عنده.
فقال هارون الرشيد: اذا دللتني على رجل فدلني على مثل هذا, هذا سيّد المسلمين اليوم.
*رواه البخاري( 13\112) (142) في كتاب الايمان.
(سير أعلام النبلاء 8\378).
ويحكى أن الرشيد قال له يوما: ما أزهدك! فقال الفضيل: أنت أزهد مني, قال: وكيف ذلك؟.
قال: لأني أزهد في الدنيا, وأنت تزهد في الآخرة, والدنيا فانية والآخرة باقية.
(وفيات الأعيان 4\48).