المرض نوعان: مرضُ القلوب، ومرضُ الأبدان. وهما مذكوران فى القرآن.
ومرض القلوب نوعان : مرض شُبهة وشك، ومرض شَهْوة وغَىٍّ، وكلاهما فى القرآن. قال تعالى فى مرض الشُّبهة:
{فِى قُلُوبِهِم مََّّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً}[البقرة: 10].
وأما مرض الشهوات، فقال تعالى:
{يَا نِسَاءَ النَّبِىِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ، إنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ}[الأحزاب: 32]،
وأمّا مرض الأبدان.. فقال تعالى:
{لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وََلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [الفتح: 17][النور: 61].
والأشياء التى يؤذى انحباسها ومدافعتها عشرة: الدَّمُ إذا هاج، والمنىُّ إذا تبَّيغ، والبولُ، والغائطُ، والريحُ، والقىءُ، والعطاسُ، والنومُ، والجوعُ، والعطشُ. وكل واحد من هذه العشرة يُوجب حبسُه داء من الأدواء بحسبه.
أن قواعد طِب الأبدان ثلاثة: حِفظُ الصحة، والحِميةُ عن المؤذى، واستفراغُ المواد الفاسدة.
فذكر سبحانه هذه الأصول الثلاثة فى هذه المواضع الثلاثة.
{فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}[البقرة: 184]،
فأباح الفِطر للمريض لعذر المرض؛ وللمسافر طلباً لحفظ صِحته وقوته لئلا يُذْهِبهَا الصومُ فى السفر لاجتماع شِدَّةِ الحركة، وما يُوجبه من التحليل، وعدم الغذاء الذى يخلف ما تحلَّل؛ فتخورُ القوة وتضعُف، فأباح للمسافر الفِطْرَ حفظاً لصحته وقوته عما يُضعفها.
وقال فى آية الحج:
{فَمَن كَانَ مِنْكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُك}[البقرة: 196]
فأباح للمريض، ومَن به أذَىً من رأسه، من قمل، أو حِكَّة، أو غيرهما، أن يحلِق رأسه فى الإحرام استفراغاً لمادة الأبخرة الرديئة التى أوجبت له الأذى فى رأسه باحتقانها تحتَ الشَّعر، فإذا حلق رأسه، تفتحت المسامُ، فخرجت تلك
الأبخرة منها، فهذا الاستفراغ يُقاس عليه كُلُّ استفراغ يؤذى انحباسُهُ.
وقد نبَّه سبحانه باستفراغ أدناها، وهو البخارُ المحتقِن فى الرأس على استفراغ ما هو أصعبُ منه؛ كما هى طريقةُ القرآن التنبيهُ بالأدنى على الأعلى.
[size=18]وأما الحِمية.. فقال تعالى فى آية الوضوء:
{وَإن كُنْتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً فَتَيَمَّمُوْا صَعِيداً طَيِّباً}[النساء: 43][المائدة: 6]،
فأباح للمريض العدول عن الماء إلى التراب حِميةً له أن يُصيبَ جسدَه ما يُؤذيه، وهذا تنبيهٌ على الحِمية عن كل مؤذٍ له من داخل أو خارج، فقد أرشد سُبحانه عِباده إلى أُصول الطب، ومجامعِ قواعده، ونحن نذكرُ هَدْى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى ذلك، ونبيِّنُ أنَّ هَدْيه فيه أكمل هَدْىٍ.
فأمَّا طبُّ القلوب.. فمسلَّم إلى الرُّسلِ صلوات الله وسلامه عليهم، ولا سبيل إلى حصوله إلا من جهتهم وعلى أيديهم، فإن صلاحَ القلوب أن تكون عارِفة بربِّها، وفاطرِها، وبأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه، وأن تكون مُؤثِرةً لمرضاته ومحابِّه، متجنِّبةً لمَنَاهيه ومَسَاخطه، ولا صحة لها ولا حياةَ ألبتةَ إلا بذلك، ولا سبيلَ إلى تلقِّيه إلا من جهة الرُّسل، وما يُظن من حصول صِحَّة القلب بدون اتِّباعهم، فغلط ممن يَظُنُّ ذلك، وإنما ذلك حياةُ نفسه البهيمية الشهوانية، وصِحَّتها وقُوَّتها، وحياةُ قلبه وصحته،
ومَن لم يميز بين هذا وهذا، فليبك على حياة قلبه، فإنه من الأموات، وعلى نوره، فإنه منغمِسٌ فى بحار الظلمات.
رحم الله العلامة \ أبن القيم الجوزية
كتابه زاد المعاد.